الكاتب: عيسى قراقع
بعد أن انتهيت من تعزية عائلة الأسير المقدسي علاء البازيان الذي توفي والده، طلب مني الأخوة في لجنة أهالي أسرى القدس أن أزور عائلة الأسير هاني جابر في البلدة القديمة، لم أتوقع أن أنزل تحت الأرض خمسة أمتار، لأرى أطفالاً صغاراً وعجوزاً نائماً في هذا القبو، لا هواء في هذا المكان ولا شمس ولا حياة ولا سماء.
هنا في قبر أو بئر قديم في القدس، تعيش أسرة الأسير الفلسطيني هاني جابر الذي يقضي 28 عاماً داخل السجون الإسرائيلية، وهنا في القدس، يمر الجميع عن شارعٍ لا يعرفون أن تحت أقدامهم بيت عائلة أسير فيه أطفال وعجوز مريض وفقر ورطوبة وصمت ووجع وبكاء يجفّ بسرعة على الجدران الصفراء.
في هذا المكان شعرت بالفشل والعجز، وعدت إلى الوراء كثيراً كأني أكتشف طريقاً آخر يؤدّي إلى جهنم وليس إلى القدس والجنة والصلاة.
على باب القبو الذي يسمى بيت، تركت كل كلامي وشعاراتي...تركت حماسة الحصان في عظامي...وخبئت قلبي تحت التراب، والتزمت هدوء الأموات المقبلين على النسيان.
عميقاً عميقاً تحت الأرض جلست مع أطفال صغار ومع ابنة الأسير هاني جابر، شربت قهوة بطعم العلقم، وتساءلت كم مسؤول وفيلسوف وعبقريّ مرَّ من فوقهم، داست قدماه على أحلام مدفونة، وعلى أصوات أطفالٍ لا تصعد للأعلى، لم يتوقف أحد أو ينتبه أن روحاً تحته تتحرك لم تمت بعد.
صرت أبحث عن ذالك الغراب الذي تحدث الله سبحانه عنه في آياته الكريمات "فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه، قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"....يا ليتني أصير غراباً.
تحت الأرض وفي بيت الأسير هاني جابر تستعيد كل ما قيل عن دعم صمود القدس العاصمة وسكانها في مواجهة التهويد العنصري والاستيطان والتهجير والعدوان المتواصل على الهوية العربية والمقدسات الدينية...
وتحت الأرض تتساءل: ألم يستطع أي أحدٍ أن يخرج سكان القبو من تحت الأرض ليكونوا فوقها قليلاً...يتنفسون الهواء ويرون الضوء ويشاهدون البشر ككل البشر...
هاني جابر مدفونٌ بالمؤبد والحديد في ظلام سجون الاحتلال...ثمانية وعشرون عاماً يسير بها نحو فراغ الغياب، وأسرته مدفونةٌ في بيتٍ لا يصلح للحياة، وعليه أن يصمد أكثر، وعليه أن يرجع من مؤبده حاملاً الحلوى والألعاب للصغار، وعليه أن يفتح شباكاً في جسده من هناك للمحاصرين تحت الأرض هنا.
كم من أسيرٍ تحتاج القدس كي يمر الهواء ويصدّق الناس أن أيامنا لم تعد معنا، أيامنا خلفنا، وسنهبط بعد قليل إلى بيت هاني جابر وليس إلى الحقول، نفتح باب سجنٍ هادئين هادئين كأننا آخر الأحياء.
كم أسيرٍ تحتاج القدس كي نشعل الأضواء في الظلام ويسير الماء في الرطوبة، ويكون لنا شجر وصلة بين الأمس والغد، ويعرف من تحت الأرض توقيت من فوق الأرض، ويسمع من في الزنزانة موسيقى من خارجها ويغيب الصدى.
هي القدس منذ قاسم أبو عكر حتى جمعة موسى، وما بينهما قافلة من الشهداء الأسرى الذين صعدوا إلى كواكبهم على سلّم أبيض ليسمعوا في الملكوت رنّة قلوبهم وأجراس العاصمة.
على باب البئر تسمع قصة عائلةٍ تطلب أماناً من جوعٍ ومن خوفٍ ومن سجنٍ ومن موت، والوقت في القدس يضيق ويجفّ رغم إنصات الأنبياء للنشيد المذبوح بين سلام الاستيطان وسلام السجن ليرتفع اللهيب إلى أعالي السيف.
أسرى القدس لا يشاركون في أي زفافٍ خارج حدود القدس، هويتهم زرقاء، ممنوعٌ أن يشاركوا في النص السياسي، ممنوع أن تدخل إليهم "الكنتينة"، ممنوعٌ أن يعيشوا خارج مقاييس الأمن الإسرائيلي، إنهم وراء الوراء خارج السور وداخل السور، هويتهم زرقاء وقلوبهم مقدسية فلسطينية، دمهم يضيء الأرض والسماء.
في بيت الأسير هاني جابر توقّف تاريخ ميلادي، لا زلت أنتظر ميلاداً آخر، وبعد قليل سأكتفي كي أكتب عنه، وأدخّن ألف سيجارة قبل أن يسرقني هذا الليل الطويل، وأعتذر لعمري الذي مضى عدماً ولقمرٍ غامضٍ خدعني وكان يرحل.