بقلم: عبد الرحيم ملوح
معرفة الواقع شرط لازم لتغيره، هذه المقولات التي أثبت صدقيتها عبر التاريخ وتجارب الشعوب المختلفة، بمعزل عن العقيدة الإيديولوجية أو السياسية أو الاجتماعية لقائليها أو المرحلة التاريخية التي قيلت فيها. لأنها ليست شعارات آنية تعالج حدث بعينه بمرحلة معينة وبهدف محدد.
والبحث عن الحقيقة في الواقع، ومعرفتنا للواقع من أجل تغيره تقودنا، نحن الفلسطينيين الى البحث في واقعنا الفلسطيني المعاش، وفي المحيط الجغرافي والسياسي الفاعل والمؤثر في هذا الواقع، وفي صيرورات تطوره.
فالواقع يقول أننا شعب تحت الاحتلال، واحتلال من طبيعة خاصة، يسعى للاستحواذ على الأرض والفضاء السياسي موظفاً التاريخ، ومستنداً للتحالف الاستراتيجي مع القوة العظمى، ومستفيداً من الموقع الجغرافي- السياسي لفلسطين، وللمصالح الاستراتيجية والاقتصادية للقوى العظمى في المنطقة وفي مقدمتها النفط.
والواقع يقول أننا شعب منقسم على نفسه، هذا الانقسام يفقده قدرة العمل الجماعي من أجل استرداد حقوقه التي اعترفت بها وكفلتها الشرعية الدولية وقراراتها عبر ما يزيد عن ستة عقود.
والواقع يقول أن قضيتنا الوطنية، والتي هي قضية تقرير مصير بل آخر قضية منذ حصول الشعوب كافة على مثل هذا الحق بعد تخلصها من الاستعمار ونيلها حريتها واستقلالها.
والواقع يقول أن قضيتنا ولدت مدولة، حيث قسمت فلسطين استناداً للقرار الدولي 181 عام 1947 وأقيمت دولة إسرائيل وفقاً لقرارات الأمم المتحدة. وبقيت دولة فوق القانون الدولي، ولم تنفذ أي من القرارات الدولية، منذ إنشائها حتى اليوم، ولم تلتزم بالشرعية الدولية وقوانينها مع أنها وقعت عليها وأعلنت التزامها بها عند قبولها عضواً في الأمم المتحدة. كل ذلك تم بحماية الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الاستعمارية. وبقيت سياسة التوسع وتحديد الحدود بالقوة العسكرية هي الناظم لسياستها في المنطقة، منذ استيلائها على فلسطين وإقامة دولة إسرائيل وتوسعها واحتلالها ما يساوي 24% من مساحة فلسطين زيادة على ما أقره القرار 181، مروراً باحتلالها عام 1949 أم الرشراش وتغير اسمها لإيلات وبناء ميناء لها فيها، وقطع الصلة البرية بين مصر وعرب أفريقيا مع عرب أسيا. وصولاً لما يجري من تهويد للقدس واستيطان في فلسطين والجولان واحتلال بعض المناطق في جنوب لبنان، وفرض الحصار على الشعب الفلسطيني، ومطالبة الفلسطينيين والعرب ليس قبول هذا الأمر فقط بل الاعتراف المسبق به. لقد سبق لرئيس وزراء إسرائيل الأسبق ووزير دفاعها ومؤسسها بن غوريون أن قال: أن حدود دولة إسرائيل حيثما تقف دباباتها، وعند اقدام جنودها. لكل هذا وبسبب هذه الاستراتيجية نرى أن إسرائيل حتى اليوم لم تحدد حدودها بل أبقت الأمر مفتوحاً للتوسع جغرافياً وسياسياً.
والواقع يشير أن ميزان القوى في هذه المرحلة يميل بقوة لصالح إسرائيل، أكان ذلك نتيجة لقوتها الذاتية، وتحالفها الاستراتيجي مع القوة الأعظم في العالم، وللضعف والتفكك السياسي العربي، او للانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني، او لكل هذه وغيره مجتمعاً. كل هذا يدفع القادة الإسرائيليين لاعتبار أن المرحلة السياسية الراهنة توفر لهم الفرصة المثلى لفرض استراتيجيتهم، والبناء على معطياتها لترسيخ دورهم المستقبلي في المنطقة. ولهذا نراهم يكثفون استيطانهم في المناطق الفلسطينية والعربية المحتلة، ويهودون القدس، ووصل الأمر لمطالبة الفلسطينيين بالذهاب للمفاوضات معهم في ظل الاستيطان واستثناء القدس باعتبارها عاصمة موحدة لإسرائيل، ورفض بحث حق اللاجئين بالعودة لديارهم، ومطالبة العرب بالتطبيع معهم كشرط مسبق من أجل التفاوض. وهذا مناقض للشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة. ان تجربة التفاوض في مدريد واوسلو وأنا بوليس وغيرها، تؤكد تحويل إسرائيل للعملية التفاوضية الجارية، الى غطاء للتوسع والاستيطان وتشكيل حقائق أمر واقع جديدة. الأمر الذي يملي على الطرفين الفلسطيني والعربي، تغيير قواعد اللعبة كما يقول البعض نحو التزام إسرائيل بالشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة، ونحو إشراف الأمم المتحدة عبر مؤتمر دولي على تنفيذ هذه القرارات. وفي المقدمة اعتبارها دولة قائمة بالاحتلال والقوة العسكرية. وبما يملي عليها الانسحاب الكامل والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني التي أقرتها وكفلتها له الشرعية الدولية.
والواقع يقول، أن في إسرائيل اليوم قيادة يمينية متطرفة تحظى بدعم من الغالبية الساحقة للإسرائيليين، تعتقد أن الزمن يعمل لصالحها. وعليها توظيفه، لتشكيل الواقع السياسي والجغرافي في فلسطين خصوصاً والمنطقة عموماً لصالح استراتيجيتها، وفي مقدمة ذلك القبول بها فلسطينياً وعربياً كما تريد هي. بما في ذلك الاعتراف بحقها بالتوسع وباحتلالها للأرض وبكونها دولة اليهود جميعاً، اليهود في فلسطين وكندا وأمريكا واليمن والمغرب...الخ وبكونهم مواطنون إسرائيليين بمعزل عن جنسيتهم وعرقهم فالدين بالنسبة لهم هو العرق. ولهذا نراها تطالب بالاعتراف المسبق بها كدولة لليهود.
والواقع يفرض السؤال الحارق الثاني، هل بامكان الفلسطينيين والعرب والعالم أجمع القبول بهذا الشرط المسبق في القرن الحادي والعشرين؟!
ان ما يستطيع الفلسطينيون فعله هو الصمود والوحدة والتمسك بحقوقهم وأهدافهم ومعالجة مشكلاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية الداخلية. والعمل لتطوير ميزان القوى فلسطينياً وعربياً ودولياً ليخدم استردادهم للحد الأدنى من حقوقهم الوطنية. فالتاريخ ليس له نهاية محددة سلفاً، ولا يمكن لأحد مهما كانت قوته كما دللت التجارب أن يحدد سفر تطوره منذ اليوم الأول.
وهذا يعني فيما يعنيه عملياً، أن القيادات الفكرية والسياسية الإسرائيلية لا تقرأ التاريخ جيداً حتى تستخلص دروسه فبهذا تكمن مسؤوليتها السياسية، وليس بالتوسع والعدوان وفرض الشروط بالقوة. لقد عرف التاريخ قادة آخذهم غرور القوة الى مناطق قاتلة، وإمبراطوريات دمرها مثل هذا الغرور. ونشهد اليوم قوى عظمى عاجزة عن فرض هيمنتها التي تريد على شعوب صغيرة، لأنها تمسك بحقها بالاستقلال والحرية. بعيداً عن ملاحظة هنا او هناك على أسلوبها أو مرجعيتها الفكرية. وعليهم الإدراك بأن الواقع والتاريخ كما لم يسمح بصراع الحضارات فانه لن يسمح بصراع الديانات.
وعلى القيادات الإسرائيلية أن أرادت وهي لا تريد في هذه المرحلة لأنها مسكونة بتفوق ميزان القوى لصالحها، الالتزام بالشرعية الدولية وتنفيذ قراراتها وأن تذهب مباشرة للبحث عن التعايش مع الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة عموماً.
ويملي على القيادات الفلسطينية عدم الانسياق في حالة الضعف هذه، والذهاب " لمفاوضات" هي أقرب ما تكون في مضمونها وشكلها للخضوع لإملاءات ميزان القوى الراهن، وللاستسلام على حساب شعبها وحقوقه الأساسية بالحرية والاستقلال والعودة.
فعلى القيادة الفلسطينية والعربية ثاقبة النظر التطلع للمستقبل، والعمل منذ اللحظة ان لم نقل منذ الأمس لبناء وحدتها وإعلاء شأن التناقض الأساس، والابتعاد قدر الامكان عن الحسابات الفئوية والشخصية. ان هذه الدعوة ليست وعداً بالجنة، بل جوهر المسؤولية الوطنية والقومية، ومعرفة الواقع من أجل تغيره.
البحث عن الحقيقة في الواقع لا يستثني دروس وعبر التاريخ الغنية، ويؤكد على الواقع ومتطلبات إدراكه وتغيره.
* نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.