السبت الماضي، افتتح الرئيس محمود عباس أعمال المجلس المركزي الفلسطيني، باستدعاء الخيار الأخير المتعلق بعقد الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها المحدد، الرابع والعشرين من كانون الثاني 2010، باعتبارها استحقاقاً دستورياً لا يحتمل المناورة.
هذا الخيار الذي نسميه الأخير، كان حاضراً كل الوقت عند الرئيس عباس، وكان يقفز دوماً بعد كل محاولة للفشل تعقب النتائج المتصلة بالحوار الفلسطيني الداخلي، وهو الخيار الأخير لأنه يأتي أيضاً كعقاب على الخيار الأول وهو الحوار، ويتأثر به إلى درجة كبيرة.
في كل عملية فشل للحوار الداخلي منذ أن كان عالقاً بين "فتح" و"حماس" قبل الانقلاب الحزيراني 2007، كنا نستغرب رد الفعل المبني على التخوين والتفريط بالحقوق الفلسطينية، وأكثر من ذلك، كنا نسمع صوت الرصاص الذي ظل حاضراً مع صوت التصريحات النارية، إلى أن حسم الانقلاب في قطاع غزة، لغة الحوار، وتحول الأخير إلى كلام في كلام. وأصبح كل طرف "يلعب" في منطقته، "حماس" في غزة و"فتح" في الضفة.
التحول الذي جرى في آخر عملية فشل للحوار، وبعد رفض "حماس" الورقة المصرية، نقول إن هذا التحول بإتباع النهج الديمقراطي واستدعاء خيار الانتخابات، يأتي عند البعض من الكتاب والمحللين، في إطار رد الفعل المُتوقع، خصوصاً بعد أن استهلك منفذ الحوار، فعباس يرى أن خلاص السلطة و"فتح" من القيل والقال، يكمن في تجديد الشرعية الفلسطينية.
المشكلة أن عباس طرح الانتخابات باعتبارها استحقاقاً دستورياً، وأكد أمام المركزي على أنها "لا تحتمل المناورة"، وهي حقيقةً استحقاق، ولكنها استحقاق سلطوي قبل أن تكون استحقاق دستوري، لأن الاتفاق جرى بنقل موعد الانتخابات إلى أجندة شهر حزيران 2010، وهل كان ذلك استحقاق دستوري أم استحقاق وطني!
إذا ما دققنا جيداً في المرسوم الرئاسي، سنجد أن عباس أصدر هذا المرسوم لتضييق الخناق على "حماس"، وهو مرسوم عقابي أكثر منه دستوري، وصحيح أن الرئيس لم يغلق ملف المصالحة الوطنية، بما له وما عليه من ملاحظات، ولكن المرسوم لا يخدم محاولات الركض لتحقيق التوافق الوطني.
ماذا سيحدث في حال أُجريت الانتخابات في موعدها بدون "حماس"؟ على فرض أن النية صادقة ومخلصة باتجاه عقد الانتخابات وفق المرسوم الرئاسي، فإن ذلك سيوقعنا في سيناريو تراجيدي للغاية، وهو كالتالي: "فتح" ستنتخب نفسها وهذا يعني أن الحركة ستعود إلى السلطة من جديد من موقع الفوز الانتخابي، مع فتح باب الشراكة للتنظيمات والشخصيات المستقلة التي تربطها بفتح علاقة "حب من طرفين".
وهذا يعني أن الانفصال التام سيتحقق بقوة الوقائع على الأرض، وكأننا أمام ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، ومثل ما هو حاصل الآن مع الكوريتين. ونتيجةً لرد الفعل هذا، فإن "حماس" قد تطمح لتجديد شرعيتها، بإجراء انتخابات تشريعية وربما رئاسية، تكون أساساً على أرض غزة، وتنتج باختيار رئيس ورئيس وزراء، وبالتالي إنجاز ولاية الحكم الذاتي في القطاع.
هذا قد يحصل في الشهور المقبلة، ولكن ماذا عن إسرائيل؟ طبعاً وقبل كل شيء، لا يمكن إغفال السياسة الأميركية التي أنتجت موقع رئيس وزراء فلسطين، فبهذا الإنتاج كانت تعمد الولايات المتحدة لإحداث قسمة وفرقة في التنظيمات الفلسطينية من خلال ما يسمى "الديمقراطية"، بمعنى أن إجراء الانتخابات سيؤدي إلى إحداث الانقسام بناءً على شهوة الوصول إلى السلطة.
الولايات المتحدة عملت بالتأكيد من الخارج على ضرورة عقد الانتخابات التشريعية التي جرت في 25 كانون الثاني 2006، وقصة الخارج هذه تتعلق بالضغط الأميركي على رقبة السلطة من أجل ما يسمى بتجديد الشرعية الفلسطينية، وحينما أوصلتنا الانتخابات إلى التفريخ الديمقراطي الذي أنتج "حماس" وضمها في النظام السياسي الفلسطيني، بدأت قصة التثوير الأميركي والإسرائيلي من الداخل.
لقد سعت الولايات المتحدة مع إسرائيل إلى إيجاد صيغة لتكريس التناقض بين كل من "فتح" و"حماس"، واشتغلت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في هذا الموضوع، والعرب اشتغلوا هم أيضاً كتحصيل حاصل على انقسامهم الحاضر، والنتيجة أدت بظهور الانقسام الفلسطيني الذي مهَّد له شارون حينما أعلن خطة فك الارتباط عن قطاع غزة، مقابل خطة إعادة الانتشار في محيط غزة. لقد برع شارون في تأسيس مصيدة ترك جغرافيا قطاع غزة قبل الانتخابات التشريعية، حتى تتقاتل "فتح" و"حماس" على السلطة والجغرافيا.
عودة إلى إسرائيل، يمكن القول إن نسبة كسبها في أي معركة مع الفلسطينيين صافية مائة بالمائة، فقد أعلن نتنياهو قبل عدة أيام عن رفضه وقف الاستيطان في الضفة الغربية، وهناك تعاون عسكري- شرطي- ديني إسرائيلي لتسريع الاستيطان في القدس وإجراء التغييرات التي تسبق أية مفاوضات لاحقة مع الفلسطينيين. الولايات المتحدة تغض النظر عن الإجراءات الإسرائيلية في القدس، وتكتفي بأهمية عودة المفاوضات و"تعال يا ميتشل وروح يا ميتشل".
آخر تصريح أميركي جاء على لسان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط جيفري فيلتمان. هذا الرجل قال الأربعاء الماضي، في جلسة عقدتها لجنة الشؤون الخارجية الفرعية عن الشرق الأوسط وجنوب آسيا في مجلس النواب الأميركي، إن الولايات المتحدة ملتزمة بأمن إسرائيل، وبأن تجميد الاستيطان ليس شرطاً لاستكمال المفاوضات.
كل هذا يعني أن إسرائيل تمتلك مخطط التقسيم القائم على فصل القدس وإخراجها وإخراج الاستيطان من المفاوضات. المطلوب عندهم كالتالي: تهويد القدس واستكمال الاستيطان، إعادة ترخيص حدود الضفة بناءً على مستجدات الجدار والاستيطان، والتأكيد على وجود سلطة فلسطينية تتمتع بحكم ذاتي نسبي، وناشطة في عملية التمكين الاقتصادي. إغراق قطاع غزة بالبحث عن مصيره، بعيداً عن محاولات إيقاظه للمقاومة.
لقد أدركت إسرائيل منذ نكبة العام 1948، أن أفضل وسيلة لإنهاء وتصفية القضية الفلسطينية، تكمن في خلق النقيض للفلسطيني، حتى لو كان هذا النقيض عربياً كما حدث في أيلول الأسود وأحداث لبنان...إلخ، وظل النقيض يتزايد وينشط، مرةً يكون عربياً ومرةً أخرى فلسطيني، إلى أن وصلنا إلى هذا الانقسام الداخلي الذي لا يهمه سوى حدود المملكة التي يتواجد فيها.
ربما إذا حدثت الانتخابات وفق "مرسوم الجمعة" وبدون الاتفاق والتوافق الوطني، فلن يبقى لنا أمل في مصالحة أو حوار، لأن مستقبل ما بعد تلك الانتخابات، سيعني حُطامٌ مفتوحٌ على الجميع. هل يحدث هذا عند أحد؟ تصوروا أنه بقوة الجغرافيا، أي بعدها عن نفسها، نتابع الانتفاضة الديمقراطية.. لطالما كنا بارعين في استحداث الأدوات اللفظية؟!