فجأة أو بالأحرى في خطوة عبرّت عن تفاقم الشعور بالأسى لحسرتين أولهما تهرّب دائم من المصالحة من قبل حماس في إطار مشروع هادف إلى تكوين إمارة إسلامية، وثانيهما إخفاق عملية السلام جراء التعنت الإسرائيلي؛ عبّر الرئيس محمود عباس عن نيته اعتزال الحياة السياسية وعدم الترشح لفترة رئاسية جديدة مع أن لا الزمان ولا المكان يسمحان بمثل هذه الخطوة التي ستزيد المشهد الفلسطيني ضبابية وتجهما .
لقد كانت الخطوة متوقعة ، ولكن تقدير حجم ما يترتب عليها من أخطار طفا منذ الإعلان عنها من قبل الرئيس وتأكيده أن هذا لا يندرج في إطار مناورة ، ولهذا بات من الحريّ التعاطي مع المسألة بجدية غير معهودة من فبل القائمين على مؤسساتنا الرسمية والشعبية ، والعمل انطلاقا من أن استمرارك رئيسا لنا مصلحة للوطن ولنا ، فلا يختلف أي قطاع على ما أرسيته من دعائم البناء وركائز الشفافية ، وما أنجزته مؤخرا من ترتيب البيت الداخلي لحركة فتح ، وما نجحت من تجسيده من تكاملية في الرؤى والمنهجيات مع الزعماء العرب ، وغيرها من الأمور التي تستوجب منا مطالبتك بالبقاء قائدا لربان سفينتنا الوطنية وأنت الحاظي بإجماع فتحاوي متجدد عبر المؤتمر السادس للحركة .
وانطلاقا مما عهدناه فيك من تحكيم لغة العقل وتنحية العاطفة جانبا ، نخاطب فيك قدرتك على تقييم الأمور والانطلاق من خطورة المرحلة التي تمر بها قضيتنا لنطالبك بالبقاء وعدم مغادرة ميدان تستوجب معطياته بقاءك في دائرة الفعل والحسم ، ولعل مطالبات المطلعين على السياسة والأكاديميين والمثقفين كلهم والتي تناشدك تحكيم المنطق أبلغ ردّ على توجهاتك بالتنحي.
ومن روح الأبوة التي جسدتها ، وما تختزنه من عاطفة وحنان ترجمتها مرارا وتكرارا في تواصلك مع أبناء شعبك ، نخاطب فيك القلب الحاني لنناشدك ألا تترك الأجيال الصاعدة وهي تتلمس بدايات طريقها ، وتستشرف غدها الآتي ، وتحاول تعرّف معالم الطريق ، فباسم الأطفال الباحثين عن رفعتهم في الغد لا تغادر ، وهذا ما عكسته المسيرات التي خرجت بعفوية وتلقائية بمجرد أن طالعتنا بقرارك في خطابك القصير نسبيا والمتشعب في مضامينه ودلالاته .
ندرك تماما أن المرحلة صعبة ، وندرك حجم المسؤولية التي اضطلعت بها منذ ضرب الانقلاب الدموي أطنابه ، ونعرف حجم المرارة التي ارتسمت على وجنة قضيتنا منذ تكشفت حقيقة أن البعض لا يجنح للمصالحة ، لكن هذا لا يعني الانسحاب أو التنحي عن مواصلة الطريق الذي بدأناه .
نرجوك ألا تغادر الميدان ، بهذه المباشرة التي رسختها عبر مسيرتك ، نخاطبك ونصارحك ، ونبادلك المحبة ، ونرجو ألا تكون تداعيات انسداد الأفقين : أفق المصالحة ، وأفق السلام سببا في أن تترك المشروع الوطني في مرحلة مصيرية .
لا نحسدك على موقعك ، ولكننا نشفق عليك من هذه الضبابية التي اعترت مشهدنا ، ورغم هذا نعرف أن مطالبتنا لك بالبقاء هي من باب" الحبّ القاسي " ، ورغم هذا لن نرحمك من هذا الحب مهما بلغت قسوته، وسنظل حريصين على أن نخاطب فيك العقل والقلب مجتمعين لأن قضيتنا باتت في وضع يستوجب الجمع بين الاثنين ، فالمنطق يقتضي البقاء بقربها ، والقلب ينادي بألا نتعاطى مع ما يحيق بها بردّة فعل .
لا تغادر الميدان، رجاء، لا تغادر، نقول هذا ونحن ندرك أن أي خيار غير هذا سيزيد تعقيدات الوضع الفلسطيني، وسيعمق إرهاصات عدم وضوح الرؤية السياسية والتي هي بالمناسبة قاتمة سوداء.
لا تغادر من أجل مواصلة السير نحو مشروعنا الوطني، ولا تترك المجال لرافدين اختلفا في الظاهر وتقاطعا في المضمون-التعنت الإسرائيلي والانقلاب – ليأخذا حضورهما على الخريطة.
نخاطب فيك روح الحرص ، ونؤكد أنك يجب أن تظل ربانا لسفينة مشروعنا الوطني حتى تصل شاطئ الأمان وكيلا تتقاذفها أمواج الحيرة.
لا تغادر، وابق فارسا، فلعل أبلغ منهجياتك كانت الصبر والتحمّل، فلا تترك هذه الميزة، وثق أن المطالبات الشعبية على عفويتها تنطلق من أعماق القلوب.